البيوت القديمة في سوريا رائحة من عبق الماضي وحنين إلى أجواء العائلة
ما بين الماضي والحاضر، والعراقة والحداثة، لا يخفى على أحد أنه في كل مدينة من المدن السورية، يزين بعض أحيائها البيوت العربية القديمة، يعود تاريخها الى مئات السنين.
وحرص أهلها على الحفاظ عليها، على مر السنين لأنها، تعتبر تراثا تاريخيا وحضاريا يدل على عراقة المدن السورية، إضافة الى قيمتها العائلية، حيث تعد البيوت العربية القديمة، من أكثر ما يميز المجتمع السوري، لقدمها وبنائها الجميل وكانت فيما مضى تجمع أفراد العائلة، ولها مكانة عائلية قبل أن تكون لها دلالة تاريخية.
كيف تبنى البيوت العربية
يدخل في بناء البيوت العربية القديمة، الطين والخشب والحجر، إضافة الى أسقف القرميد للطابق الثاني، فهي غالبا ما تتكون من طابقين، يتوسط المنزل باحة كبيرة تسمى “ارض الديار” وهي مشاحة مفتوحة تتوزع حولها بقية الغرف كغرفة الضيوف، والتي عادة ما تكون مفتوحة على الباحة السماوية و في وسط أرض الديار، بركة ماء تعطي جمالا خاصا للمنزل، إضافة الى “الليوان” وهو عبارة عن قاعة مرتفعة السقف، محاطة بثلاث جدران مفتوحة على الباحة، وما يعرف ببيت المونة، وتسمى الغرف العلوية، والتي عادة ما تكون صغيرة وتسمى “النصية” إضافة الى غرف النوم، وغرف المعيشة.
أنواع متعددة واختلاف في التصميم
وتحمل البيوت العربية، طابع البساطة حيث يتكون المنزل، من أسقف خشبية طينية، وعدد قليل من الغرف، وأرض ديار صغيرة نوعا ما، وأثاث منزلي بسيط، يقتصر على الحصائر والبسط و وسادات القش، أو ما يعرف بالمدة العربية البسيطة، وتحمل بعض البيوت طابع الفخامة والعراقة، حيث تتميز بأرض ديار كبيرة، تتوسطها بركة ماء ونوفرة، مزينة بأجمل انواع الرخام، أسقفها و جدرانها مزينة بالفسيفساء والزخارف الهندسية العريقة، وبعضها يغطيها الخشب الملون والمحفور بمهارة هندسية رائعة، و تزيدها جمالا القناطر المقنطرة، والفوانيس المعلقة على الجدران ، ولا يخلو أي بيت عربي من زينة الطبيعة، من عريشة الياسمين، إلى رائحة زهر الليمون، وألوان الزهور، التي تملأ المنزل، وتعطيه رونقا خاصا وعريشة الدالة ينورها عناقيد العنب، حيث يعتني أصحاب البيوت بها، و يرعونها كاعتنائهم ورعايتهم لأبنائهم، فهي جزء أساسي من حياتهم، كما أن غرفها واسعة، وأثاثاتها كثيرة، فتغدو الدار العربية ملهمة للشعراء، الذين تغنوا بجمال دمشق وجمال بيوتها فقال نزار قباني في البيوت الدمشقية:
النوافير في البيوت كلام والعناقيد سكر مطحون
والسماء الزرقاء دفتر شعر والحروف التي عليه سنونو
وتحمل في مظهرها شيئا من تاريخ الحضارة العربية القديمة، وقد تحول الكثير منها الى معالم سياحية مهمة، فبعضها تحول إلى مطاعم، أو فنادق، أو رموز تاريخية، ذات طابع إسلامي، وأصبحت وجهة سياحية هامة، تستقطب السياح من كافة بقاع العالم مثل قصر العظم، في دمشق، والجامع الأموي الكبير في حلب وغيرها كثير.
مكانة عائلية فريدة وذكريات لا تنسى
وعن المكانة العائلية التي تتمتع بها البيوت العربية القديمة، يقول “أبو محمد” وهو رجل في الستين من عمره، إن بيته العربي أغلى من كنوز الأرض جميعا، فهو عاش فيه طفولته، وتزوج فيه وربى فيه أطفاله، حيث كان البيت العربي فيما مضى هو بيت العيلة، يجتمع فيه مع أمه وأبوه، وأخوته، وأولاد أخوته، يتشاركون الحياة بكل تفاصيلها، يتشاركون الطعام والشراب، الأحزان والأفراح.
ويضيف أبو محمد، أن بيته العربي، تعرض للقصف من قبل طائرات النظام، فتدمر جزء كبير منه، وأصبح غير صالح للسكن، فدفنت تحت ركامه ذكريات، وأيام لا يمكن أن ينساها، فهو يعيش الآن في منزل صغير، أشبه بعلبة كبريت خانقة وهو غير معتاد على العيش في هذه المنازل، إلا أن تدمير بيته ووضعه الاقتصادي أجبره وعائلته، على التأقلم مع هذه المعيشة الجديدة.
أما عمار الذي نشأ وترعرع في بيت عربي عريق، ثم خرج من سوريا بسبب الظروف الأمنية يقول: إنه أكثر ما يحن ويشتاق له في بلده، هو بيته العربي القديم، الذي عاش فيه أجمل أيام طفولته وشبابه، يحن إلى اجتماعه مع أهله على مائدة الطعام، ويحن إلى السهرات العائلية حول بركة الماء، وإلى رائحة الياسمين، وأشجار الليمون، فهو يذكر كل تفصيل صغير في بيته، يتذكر بركة المياه المتربعة وسط المنزل، يتذكر قطع الرخام وشكل الزخارف المزينة لجدران المنزل.
هذا وحاله كحال نزار قباني الذي قال بعد خروجه من دمشق، بثلاثين سنة أنه يذكر كل تفاصيل الحياة، التي عاشها في بيته القديم بدمشق حيث قال: “أستطيع أن أغمض عيني، وأستعيد، بعد ثلاثين سنة مجلس أبي في صحن الدار، وأمامه فنجان قهوته، ومنقله، وعلبة تبغه، و جريدته.. وعلى صفحات الجريدة تساقط كل خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء.. كأنها رسالة حب قادمة من السماء”.
ميدل بوست: ياسمين جاني